طلبة بين معَاوِل القُرى وأقلام الجامعة!
تستقبل مدينة فاس كل عام عشرات الآلاف من الطلبة القادمين من الدواوير المجاورة، أبناء الضواحي الذين رمى بهم المغرب المنسي إلى مغرب آخر مُهمل.
غالبية هؤلاء أبناء كُدّح نمت أحلامهم بين أحجار القرية. ولأني منهم، أعرف حكاياتهم، وعاصرت قصصهم وعايشت آلامهم ووخز قلوبهم.
بين مناجل الحقول وحرارة الشمس أكاديميون يقضون الصيف بطوله بين ضيعات الفيوداليين الجُدُد بحثاً عن شتاء سيأتي. غالبية هؤلاء يعودون لمدينة الغُبار لخوض غمار تحدٍ آخر بين غرفِ الكراء في الضواحي الشعبية ومصاريف الدراسة والأكل ومستلزمات الحياة ومصائب الزمن التي لا ينضبُ واديها الطويل في هذا الوطن.
على ذيل هذه السنة، طلبة قدم الكثيرون منهم إلى فاس وأُغلقت أبواب الأحياء الجامعية والمطاعم والكثير من المرافق في وجوههم وفي غياب تام للنقل أيضاً.
السؤال الذي يفرض ذاته علينا هو التالي: إذا كانت رئاسة جامعة سيدي محمد ابن عبد الله قد شرعت في تقديم الدروس الحضورية لغالبية طلبة الإجازة الأساسية، فما مصير الفئة الأخرى غير المحظوظة التي تدرس حضوريا والتي يكوّنها جزء كبير من أبناء الهامش هذا، إذا استثنينا أبناء المدينة الجامعية؟
كم سيصمد هؤلاء أمام نفقات الدراسة وصعوبة العيش في ظل الأزمة الإقتصادية التي يعيشها الشعب بسبب الجائحة؟
وكيف تبني إدارة الجامعة قرارتها دون إيجاد حلولٍ وفق الشروط التي تعيشها هذه الفئة التي قد تُفلتُ أهداب الأمل بعد أن أتعبها طول التمسك؟
إذا كان “بالزاك” قد قال بأن أول تحول للمرء هو الحب، فإن أول تحول لهؤلاء هو الألم الممزوج بالمعاناة الذي يُفرزه واقع قميء. الإحساس بالضياع وتكريس عقد النقص عند الكثيرين الذين خدشتهم الفوارق الطبقية ونكأت جراحهم الذابلة.
أمام تأخر صرف المنح واستغلال سماسرة الكراء الذين جففوا ماتبقى من دمائهم، تذوب أماني الكثيرين كما يذوب الزّبد الجامد على نار خافتة.
أمام أهوال واقع تغيب فيه أبسط شروط الحياة، يرتطم أبناء المساكين المسحوقة عظامهم بمسقط الرأس بعد أن عاد الكثيرون نحو القبيلة جارّين وراءهم خيبات لا تحصيها سوى دموع الأمهات ونظرات الاَباء داخل الكوخ!
في الجامعة زهورٌ سارت على وصايا المسيح حينما قال (ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان)، وحلموا بالزادِ كاملاً… وفي النهاية، أفقدهم الفقر وأفقدتهم السياسات الجائرة الخبزَ والملاعق. التفقير والسلب الموجه نحوهم يصنع كل يومٍ آلاف التقعرات في أرواحهم وظلمات قاسية في أفئدتهم، تماشياً واستمرارية الدق على مسامير نعش التعليم المغربي.