كيف تطور مفهوم الفرد؟ أسئلة فوكو 4/4 - Marayana - مرايانا
×
×

كيف تطور مفهوم الفرد؟ أسئلة فوكو 4/4

يُعتبرُ مفهوم الفرد سليل عصر التنوير بالدّرجة الأولى، وهو ركيزة ارتكز وقام عليها الفكرُ الحديث وعبّر عن نفسه من خلال الفلسفة، السياسة والفن.
أصبح الفرد سمة أساسية، إذْ لا يُمكنُ فهم المُجتمعات الأوروبية ومشروعها الحداثي الضخم دون الرُّجوع إلى هذا العُنصر المهم داخل المُجتمع. علماً أنّ تغييراتٍ كثيرة حدثت في مفهوم الفرد من عصرٍ لاخر، من حقبةٍ لأخرى. بمعنى أنّه ليس مفهوماً جامداً بل هو مفهوم متغيّر

سفيان البراق: طالب مجاز في الفلسفة

جون سيتوارت ميل[1] (1806 ـــ 1873) أراد أنْ يبني نظريّةً في الفردانية على أُسُسٍ نفسيّة تجريبيّة، وذلك على أساسِ اللّذة والألم والتي ستكونُ ضمن أُطر محكمة التأييد والتكذيب.

انتقد ميل نظريات العقد الاجتماعي لعدم جدواها على أرضِ الواقع، فالفردُ حسب ميل هو الحكمُ الوحيد القادر على تقييمِ أفعاله، ولهذا السبب بالذّات عُدَّ ميل من أبرز ومن أقوى مُمثلي الليبرالية على الإطلاق.

مفهوم الفرد لم يَسلَم من كلّ الفلسفات رغم اختلاف الفترات، فحتى الفلسفة المُعاصرة أدلت بدلوِها في هذا الموضوع، لأنّ جل الفلاسفة المُعاصرين عايشوا الحربين العالميّتين الأولى والثانية، وشاهدوا ما حدث للفرد الأوروبي، من قتلٍ وتعذيبٍ وحشي.

في الجُزء الأخير من كتابه، تاريخ الجنسانيّة، يمُدُّنا فوكو بالمعايير الأخلاقية والجمالية للوجود. اهتمَّ فوكو في هذا الجزء بدراسة تطوُّر وتكوُّن الذّات الفردية في المُجتمعات القديمة من أجل حلِّ مشكلة استلاب الفرد في العالم الحديث والمُعاصر.

هنا بالضبط، قال الكاتب الإيطالي بريمو ليفي عبارة رائعة: “إنّ مُبرّر الفلسفة والأدب والفنون هو مُقاومة وحشية البشر والدفاع عن الحياة وتحريرها من استبداد شهوة الاستعباد والقتل”.

كما نجدُ جيل دولوز يُعبر عما يُعانيه الفلاسفة من مشاكل مُستعصيّة: “ألسنا مُهدّدين بأنْ نجد على خطٍّ من خُطوط الانفلات ما نُريدُ أنْ ننفلت منه، أليس من المحتمل أن نجد أمامنا من جديد التشكيلات الأوديبيّة الأبديّة: الأب/أم؟ ألسنا أمام خطر عودة الفَاشيّة وأنظمة السُّلط القمعيّة على خطِّ الانفلات نفسه؟”

من أهم الفلاسفة الذين طرحوا رأيهم بخصوص الفرد خلال منتصف القرن العشرين، نجدُ على رأسهم ميشال فوكو. حاول ميشال فوكو (1926 ـــ 1984) في مُختلف نُصوصه الفلسفيّة الرّصينة أنْ يُبيّن مدى تأثير السلطة على الفرد والمُجتمع ودورها في بلورة تقنيّاتٍ خاصّة وثيقة الصلة باستراتيجيّة التنظيم الاجتماعي وتحديد مسؤولية الفرد تُجاه نفسه وتُجاه المُجتمع، وهو الأمر الّذي دفع ميشال فوكو إلى البحث عن الجُذور التاريخية التي جعلت الفرد يضعُ ذاتهُ موضع انهمام[2].

في الجُزء الأخير من كتابه، تاريخ الجنسانيّة، يمُدُّنا فوكو بالمعايير الأخلاقية والجمالية للوجود[3]. اهتمَّ فوكو في هذا الجزء بدراسة تطوُّر وتكوُّن الذّات الفردية في المُجتمعات القديمة من أجل حلِّ مشكلة استلاب الفرد في العالم الحديث والمُعاصر.

انكبُّ فوكو على دراسة الحضارة اليونانية والرّومانية، لأنّ هاتين الحضارتين ـــ حسب فوكو ـــ تميَّزتا بكثافة اهتمام الفرد بذاته، أي العنايةُ بنفسه فقط دون الاكتراث أو الالتفات إلى موضوعاتٍ يتخذ منها موضوعاً للمعرفة. الهدفُ وراء هذه العناية المُفرطة بالذّات هو إعادة تشكيلها وإصلاحها وتطهيرها من أجل تحقيق خلاصها[4].

إنّ فلسفة ميشال فوكو هي فلسفةُ الاهتمام باليومي وقضايا الرّاهن، من خلال الحفر والنّبش في ثنايا الواقع بكلِّ تلبساته وهامشيّته والولوج إلى صميمه ومُحاولة تفكيكهِ. يستطيعُ الفرد في نظر ميشال فوكو بتشكيلِ ذاتيّته بمعزلٍ عن كلِّ سلطة، ومن ثمّة، فهو قادرٌ على التخلُّص من هيمنتها المُجحفة.

مفهوم الفرد لم يَسلَم من كلّ الفلسفات رغم اختلاف الفترات، فحتى الفلسفة المُعاصرة أدلت بدلوِها في هذا الموضوع، لأنّ جل الفلاسفة المُعاصرين عايشوا الحربين العالميّتين الأولى والثانية، وشاهدوا ما حدث للفرد الأوروبي، من قتلٍ وتعذيبٍ وحشي.

يستدلُّ فوكو على ذلك بالعودةِ إلى النّظام اليُوناني بما هو مَبنيٌّ على أخلاقٍ غير مُرتبطة لا بالدين ولا بالعلم ولا بالقانون.

يُعتبرُ مفهوم الفرد سليل عصر التنوير بالدّرجة الأولى، وهو ركيزة ارتكز وقام عليها الفكرُ الحديث وعبّر عن نفسه من خلال الفلسفة، السياسة والفن. أصبح الفرد سمة أساسية، إذْ لا يُمكنُ فهم المُجتمعات الأوروبية ومشروعها الحداثي الضخم دون الرُّجوع إلى هذا العُنصر المهم داخل المُجتمع. علماً أنّ تغييراتٍ كثيرة حدثت في مفهوم الفرد من عصرٍ لاخر، من حقبةٍ لأخرى. بمعنى أنّه ليس مفهوماً جامداً بل هو مفهوم متغيّر.

الفردُ الواعي بذاتيّته وعياً تامّاً اكتشف تفرُّدهُ وأنّه ذاتٌ مُستقلّة ولا تخضعُ للحشد، فهو وحدهُ من يستطيعُ أن يدخل طريق الحقيقة وطريق الإيمان. يقول سقراط:” إنّ باب الرذيلة واسعٌ يدخلهُ النّاس جماعات، أمّا بابُ الفضيلة فضيّقٌ لا يدخلهُ إلّا الشّخصُ الواحد”.

 

لائحة المصادر والمراجع الرّئيسية التي تم الاعتماد عليها لإنجاز هذا الملف بأجزائه الأربعة:

ـــ عبد السلام بنعبد العالي، أسس الفكر الفلسفي المعاصر (مجاوزة الميتافيزيقا)، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 1991، عدد الصفحات 174.
ـــ تزفيتان تودوروف، روح الأنوار، ترجمة حافظ فويعة، دار محمد علي للنشر، تونس، الطبعة الأولى 2007، عدد الصفحات 152.
ـــ شطارة، عامر ناصر، الفردانية في الفلسفة الحديثة، دراسات، العلوم الإنسانيّة والاجتماعية، المجلّد 41، ملحق 1، 2014.
ـــ عزة علامة، “الحريّة لدى جون جاك روسو”، صحيفة الحوار المتمدن، 2017.
ـــ حسين موسى، ميشال فوكو ـــ الفرد والمُجتمع، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت، سنة الطبع 2009، عدد الصفحات 160.

[1] هو فيلسوف، ودارس للاقتصاد البريطاني. أسمى المبادئ عند ميل هي حرية الفرد والتنوع والعدالة وصولاً إلى السعادة البشرية.
 [2] ميشال فوكو ـ الفرد والمُجتمع، تأليف: حسين موسى، ص 13.
 [3] نفس المرجع، ص 13.
 [4] نفس المرجع، ص 20.

لقراءة الجزء الأول: كيف تطوّر مفهوم الفرد؟ 1/4

لقراءة الجزء الثاني: كيف تطوّر مفهوم الفرد؟ من أرسطو إلى فلاسفة الأنوار 2/4

لقراءة الجزء الثالث: كيف تطور مفهوم الفرد: أثر ديكارت 3/4

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *