من مصر، محمد حميدة يكتب: موعد مع النداهة - Marayana - مرايانا
×
×

من مصر، محمد حميدة يكتب: موعد مع النداهة

سنوات طويلة مرت. أشياء كثيرة تغيرت ملامحها. الصغيرة شبت، والشباب شابت، والأخضر تجرد من فطرته. اللون الإسمنتي ترك أثره على ملامح البشر وفي قلوبهم أيضا. زحام القاهرة المرهق يدفعني دائما …

سنوات طويلة مرت. أشياء كثيرة تغيرت ملامحها. الصغيرة شبت، والشباب شابت، والأخضر تجرد من فطرته. اللون الإسمنتي ترك أثره على ملامح البشر وفي قلوبهم أيضا. زحام القاهرة المرهق يدفعني دائما نحو الهروب والعودة إلى بعض مني تركته في قريتنا التي لم يتبق من فطرتها سوى بعض حقول الأرض وتلك الأشجار ونخلة النداهة.

بعد سنوات عدة، امتلأت رأسي بآلاف الأسئلة وعلامات الاستفهام. أصبحت مضطربا أكثر مما كنت عليه قبل مجيئي للقاهرة، وهو ما دفعني تلك المرة إلى محاولة زيارة النداهة… فعلى الرغم من أن أهل القرية كانوا يخشونها، إلا أنني كنت أحد المقربين لها. لم تؤذني نهائيا منذ أن تصادقنا وأنا في السادسة من عمري، حين كنت أسرق البرتقال والجزر من بيت جدتي لأتركه لها تحت النخلة، تستفيد منه مع أطفالها. كانت تلقي لي الكثير من التمر من النخلة الشاهقة التي لا يستطيع أحد الصعود إليها.

اقرأ لنفس الكاتب: تذكرة ذهاب فقط!

في ذلك اليوم الذي ذهبت فيه إلى القرية بالفيوم في منتصف شهر يوليوز\يوليه، انتظرت حتى دقت الساعة الثانية ظهرا. في هذا التوقيت، تكون الطرقات خالية تمام ولا يسير أي شخص في الأرض الزراعية، فأهل قريتنا أشبه بأهل الكهف في تلك الساعة. اصطحبت معي بعض كتبي. ربما أردت أن اخبرها أني صرت كاتبا ولدي بعض المؤلفات، خاصة أننا لم نلتق منذ زمن بعيد. بعدما اجتزت حيز مباني القرية، اتجه نظري صوب النخلة الشاهقة.

كانت حرارة الشمس تنبعث من الطمي وكأنه يتبخر. وضعت الكتب فوق رأسي وسرت نحوها غير مبالٍ بدرجة الحرارة. أعواد الزرع المحنية والسكون الذي جعلني أسمع صوت الاسماك في المياه بدا هذه المرة مريبا. خطواتي أصبحت أثقل كلما كنت أقترب منها.

اقرأ لنفس الكاتب: حجاب حلا وعري المنطق العربي

على غير العادة، لم تسبقني هي بالنداء. في الماضي، كانت تناديني مع أول خطوة أخطوها على الجسر، بعد آخر منزل في الكتلة السكنية. يا إلهي، ماذا هناك؟ لماذا لم تظهر؟ لماذا لم تنادني؟

لقد جئتها بعد غياب كي أسرد عليها الكثير من الأسئلة التي تدور برأسي دون إجابة. خطوة تلو الأخرى والأسئلة تفور في رأسي فوران المياه المغلية. حل برأسي هاجس الموت. هل تكون ماتت؟ لكن كيف تموت؟ النداهات لا يمتن! النداهات مبعوثات بعد الموت…

للمرة الأولى، يطل برأسي تساؤل آخر: هل يمكن أن تتحول نساء قريتنا إلى نداهات؟ أخشى أن تتحول “أم الخير” إلى نداهة..  ستؤذي جينها كل الصغار وتمنعهم من الذهاب إلى المدرسة وقد تخطفهم؛ فهي على عكس اسمها تماما: كل ما فيها يفوح بالشر.

اقرأ لنفس الكاتب: إنهم يأكلون النساء يا رسول الله

نفضت كل هذه الأسئلة من رأسي وعدت للتركيز بشأنها.. وصلت النخلة ونظرت للأعلى وناديتها. أجابتني على استحياء وكأنها تشبه علي، وكأنها تعرفني ولا تعرفني. بدت أكثر شراسة ومخيفة هذه المرة. أخبرتها بأني صديقها منذ الصغر. بعد محاولات عدة، تذكرتني، لكنها أخبرتني أنها لم تعد تخاطب أحد بعدما تغير كل شئ حولها وتغيرت ملامح البشر.

المدهش أنها أصبحت تخاف الناس الذين يمرون، وأن ملامحهم أصبحت مفزعة بالنسبة لها. لذلك، تلتزم الصمت منذ سنوات عدة… أجابتني عن بعض الأسئلة بعدما أهدتني  الكثير من التمر وسألتني عن البرتقال والجزر. صمت فأخبرتني: “ألم أقل لك إن كل شئ تغير؟ ألم أقل لك إن البشر أصبحوا أكثر قسوة من النداهات والجن؟”

تحركت للمنزل وقد زادت في رأسي آلاف الأسئلة مرة أخرى.

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *