من بريطانيا، وائل العجي يكتب: ثقافة الإنكار في مجتمعاتنا، المرض المستعصي على العلاج؟ - Marayana - مرايانا
×
×

من بريطانيا، وائل العجي يكتب: ثقافة الإنكار في مجتمعاتنا، المرض المستعصي على العلاج؟

أظهرت اﻷحداث المتلاحقة التي أعقبت هجمات 11 سبتمبر\أيلول عمق اﻷزمات النفسية والفكرية التي تعصف بمجتمعاتنا، والتي كان آخر تجلياتها تفاقم العنف الطائفي في المنطقة وظهور تنظيم داعش و موجات اللجوء …

أظهرت اﻷحداث المتلاحقة التي أعقبت هجمات 11 سبتمبر\أيلول عمق اﻷزمات النفسية والفكرية التي تعصف بمجتمعاتنا، والتي كان آخر تجلياتها تفاقم العنف الطائفي في المنطقة وظهور تنظيم داعش و موجات اللجوء والهجرة التي ﻻ ترى مستقرا “نهائيا” لها سوى في البلدان الغربية، رغم التراث الزاخر بنظريات “الأمة العربية الواحدة” و “التضامن” و “اﻷخوة”.

تزداد هذه اﻷزمات تأججا أثناء اﻷحداث الكبيرة، مثل هجمات داعش على السكان في سوريا و العراق، وهجمات باريس اﻷخيرة وأيضا السلوك اﻹرهابي لمجموعات أسدية و إيرانية متطرفة، فتظهر على السطح الانقسامات المجتمعية التي يمكن الاستدﻻل عليها من خلال دراسة ردود اﻷفعال على هذه  الأحداث.

تعرف هذه اﻷنماط الفكرية في علم النفس التحليلي بآليات الدفاع النفسي، ومن أبرزها اﻹنكار

ردود الأفعال هذه تدل عموما على حالة افتراق أخلاقي مجتمعي مريعة، بسبب تعدد واختلاف المنظومات اﻷخلاقية التي تحكم مجتمعاتنا، وتأثرها بعوامل عديدة بعضها ديني طائفي وبعضها تاريخي تراثي وبعضها اﻵخر سياسي إيديولوجي.

اقرأ لنفس الكاتب: الربيع العربي ومتلازمة استكهولم، أو ولع الضحية بالجلاد

المثال اﻷحدث على هذه اﻷزمات يأتي من ردود اﻷفعال على هجمات باريس اﻷخيرة، ففي حين هلل لها البعض واعتبرها الطريقة المثلى للرد، قام البعض اﻵخر بإدنتها إدانة صريحة ﻻ مواربة فيها. تفاوتت المواقف اﻷخرى ما بين التشكيك واللجوء لنظرية المؤامرة، إلى المنهج التبريري و اﻹنكار، بينما لجأ البعض إلى المنهج الذرائعي حيث يتم نزع صفة الضحية عن المجني عليهم وتتم إدانة الفعل باعتباره يشكل إساءة لعقيدة الجناة.

يعتبر اﻹنكار من آليات الدفاع البدائية، ﻷن تشكله يبدأ مع مراحل التطور اﻷولى للطفل، وتعتبره آنا فرويد دليلا على عدم النضج، بينما يعتبره علماء آخرون وسيلة للهروب من اﻹحساس بالذنب والمسؤولية

تعرف هذه اﻷنماط الفكرية في علم النفس التحليلي بآليات الدفاع النفسي، ومن أبرزها اﻹنكار. يعرف اﻹنكار على أنه عدم القدرة على الاعتراف ومواجهة الحقيقة الواقعة. وهو آلية يستعملها الشخص للدفاع عن ذاته ضد القضايا التي ﻻ يستطيع التعامل معها لتجنيب نفسه المعاناة النفسية التي قد تنجم عن المواجهة؛ وهذا يتطلب توظيف طاقات نفسية واستعمال آليات دفاع أخرى ﻹبقاء الحقيقة المؤلمة خارج الوعي، رغم توفر اﻷدلة الدامغة على وجودها.

اقرأ أيضا: الفكر الداعشي الذي يسكننا

يعتبر اﻹنكار من آليات الدفاع البدائية، ﻷن تشكله يبدأ مع مراحل التطور اﻷولى للطفل، وتعتبره آنا فرويد دليلا على عدم النضج، ﻷنه يعيق القدرة على التعلم والتعامل مع الواقع والتأقلم معه، بينما يعتبره علماء آخرون وسيلة للهروب من اﻹحساس بالذنب والمسؤولية وما يترتب عليهما.

الشكل اﻷخطر من أشكال اﻹنكار، هو إنكار اﻹنكار، وهو يعني الثقة المطلقة بأن ﻻ شيء بحاجة للتغيير في السلوك والعادات والمفاهيم، ويتجلى هذا في التيارات التي تؤمن بتفوق ومعصومية وأزلية أفكارها، حيث تتشكل لديها حالة عدائية تجاه كل من يحاول نقدها

للإنكار أشكال عدة منها:

1) إنكار حقيقة واضحة معززة بأدلة دامغة مثل إنكار الحروب الصليبية أو إنكار الهولوكوست أو مجازر اﻷسلحة الكيميائية في حلبجة أو الغوطة.

2) الشكل اﻵخر هو إنكار المسؤولية، ويكون إما بإلقاء اللوم على اﻵخرين مثل لوم الضحايا أنفسهم أو لوم حكوماتهم، أو التقليل من التأثير السلبي للفعل، كمحاولة تقييم جريمة سياسية ذات أبعاد كبيرة كاغتيال الحريري مثلا، و اعتبارها جريمة جنائية بحتة، أو تبرير الفعل لجعله يبدو “طبيعيا”، اعتمادا على المنظومة اﻷخلاقية للجهة التي تبرر الفعل، مثل القانون 49 المشؤوم الذي أباح إعدام كل شخص ينتمي للإخوان المسلمين حتى لو لم يرتكب أي جرم، اعتمادا على التفسير البعثي لمفهوم الجريمة السياسية.

اقرأ أيضا: البطيخ واسم الجلالة

3) الشكل الثالث للإنكار هو إنكار النتائج أو التقليل من أهميتها، باستعمال معايير ﻻ تتناسب مع الحدث، و ذلك هربا من الشعور بالذنب أو الندم، ولمنع الذات من التعاطف مع الضحايا، مثل اختصار هجمات باريس بمقتل 12 شخص فقط، دون النظر إلى رمزية الحدث و أبعاده السياسية والثقافية والاجتماعية، وانعكاساته على اﻹسلام والمسلمين، ومحاولة مقارنة ما حدث في باريس بأحداث أخرى قتلت فيها أعداد أكبر من الضحايا.

4) إنكار الوعي، وهو شكل آخر من أشكال اﻹنكار، ويعني محاولة تجنب المعاناة النفسية عبر الادعاء بأن الوعي واﻹدراك قد تم تثبيطهما بعوامل مخففة أخرى، مثل اﻷمراض العقلية أو النفسية أو عدم الفهم الصحيح. أوضح مثال على هذه الحالة، يأتي عبر الادعاء المباشر بأن اﻹرهابيين هم مرضى نفسيين أو أصحاب عقائد منحرفة تعتمد على الفهم المغلوط للموروث الديني أو الثقافي دون تكليف النفس مشقة الخوض في مراجعات علمية وجدل منطقي حول هذا الموروث الذي يستعمله اﻹرهابيون للتأصيل الفقهي و الشرعي ﻷفعالهم.

اقرأ أيضا: نحن أيضا اكتشفنا المؤامرة… مع السلامة

5) الشكل اﻷخطر من أشكال اﻹنكار، هو إنكار اﻹنكار، وهو يعني الثقة المطلقة بأن ﻻ شيء بحاجة للتغيير في السلوك والعادات والمفاهيم، أي العيش في حالة من خداع الذات، ويتجلى هذا في التيارات التي تؤمن بتفوق ومعصومية وأزلية أفكارها، حيث تتشكل لديها حالة عدائية تجاه كل من يحاول نقدها، سواء من داخلها أو من خارجها؛ ولذلك، فهي تميل ﻹلقاء اللوم على اﻵخرين في كل شيء، مثل التيارات الفكرية الفاشية السياسية و الدينية.

هذا الأمر يتطلب أوﻻ تحرير العقل العربي من كل القيود التي تكبله، وتمكينه من اﻹبحار في فضاء المعرفة الرحب دون خوف، و بعيدا عن أي تهديد أو تحريض

6) الشكل اﻷخير، و يدعى اختصارا بـ “براف” (Blaming of rape victim)، وهو يعني إنكار الفعل وإلقاء المسؤولية على الضحية، وبذلك يتم عكس المعادلة، فتصبح الضحية هي المجرم اﻷساسي و المجرم هو الضحية التي أجبرت على الدفاع عن نفسها، و يتجلى هذا في محاوﻻت تبرير قتل الرهائن و المدنيين عبر ذرائع من قبيل (هم و حكوماتهم جلبوا الشر ﻷنفسهم) أو (جيوشهم حاربتنا في الماضي أو تحاربنا حاليا”، و لذلك فإننا ننتقم و ندافع عن أنفسنا بقتلهم، ﻷنهم هم من انتخب هذه الحكومات).

يتضح مما سبق عمق وخطورة اﻷزمات الفكرية واﻷخلاقية التي تعصف بمجتمعاتنا، والتي تناول هذا المقال جانبا ضئيلا منها فقط. لذلك، فإن المسؤولية التاريخية تحتم على الحكومات والنخب في مجتمعاتنا، الارتقاء إلى مستوى التحدي والمبادرة، بإنشاء ودعم فرق متخصصة بدراسة الواقع دراسة تحليلية موضوعية، وتسمية اﻷمراض الاجتماعية بأسمائها دون مواربة، ومواجهة الواقع مهما كان مؤلما، وذلك بهدف وضع توصيات ملائمة للخروج من هذا النفق المظلم.

هذا الأمر يتطلب أوﻻ تحرير العقل العربي من كل القيود التي تكبله، وتمكينه من اﻹبحار في فضاء المعرفة الرحب دون خوف، و بعيدا عن أي تهديد أو تحريض، وذلك بوضع منظومة تربوية وقانونية تشجع على اﻹبداع الفكري، وإﻻ، فإن مستقبلا أكثر ظلما و ظلاما سيكون بانتظار مجتمعاتنا، ولن يكون أي مجتمع بيننا في منأى عن الكارثة.

* د. وائل العجي طبيب سوري بريطاني، اختصاصي في علم النفس

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *