#ألف_حكاية_وحكاية: برتقال درقاوة، بركة الدراويش وبركة جدي - Marayana - مرايانا
×
×

#ألف_حكاية_وحكاية: برتقال درقاوة، بركة الدراويش وبركة جدي

كنت في السادسة من عمري، وكانت قدماي الصغيرتين لا تتعبان من المشي، ولا شيء يريحني غير لف “الكصر” لفّات كثيرة في اليوم. بعد ذلك، تهدأ أعصابي وأستسلم لنوم كان قد …

كنت في السادسة من عمري، وكانت قدماي الصغيرتين لا تتعبان من المشي، ولا شيء يريحني غير لف “الكصر” لفّات كثيرة في اليوم. بعد ذلك، تهدأ أعصابي وأستسلم لنوم كان قد بدأ يخاصمني منذ تلك السن البعيدة. أستيقظ صباحا وألف في البيت وأدور. بعد أن أتعب من الدوران على نفسي في بيتنا الطيني بقرية آيت عاصم، أنسحب بهدوء. أنزل من الطابق الثاني حيث تاسقيفت والزعيق اليومي. أنسحب من كل ذلك وأخرج وأنا أعرف وجهتي: قصر تامردولت.

أنزل الدرج الطيني وأطل على إيحونا التي يهجم عليها ضوء قوي في منتصف النهار، يجعلنا نحتمي بالمراح، “الفسحة”، في الطابق السفلي. حينما يحل المساء، يستحيل المراح الى جحيم، فنصعد إلى السطح.

كنا نقضي الصيف هكذا طلوعا وهبوطا، تبعا لنظام تكييف طبيعي يخضع له أبناء الواحة بدون تذمر.

لم يكن شيء من هذا القبيل يثير تذمري. ما كان يثير فزعي هو الزعيق المتواصل والأواني التي كانت تتطاير كلما غضب أحد رجال البيت أو لم يدخن سيجارته.

اقرأ أيضا: #ألف_حكاية_وحكاية: مختطفة تنجداد (الجزء الأول)

كنت أنسحب بهدوء وأقطع لعلو، وهو ما يفصل البيوت الطينية ويشكل شارعا حيث تيار هواء جميل كنا نتسابق لنكون في مهبه. أعبر “لعلو نايت مرغاد” برشاقة وأعدو بعدها وعلى يميني أعفير، وهو حفرة كبيرة تحيط بإغرم ويبدو أنها كانت وسيلة دفاع عن الكصر في زمن بعيد.

أعبر البيوت الطينية ولا أسلم على أحد ولا أحيي أحدا، لأنني لم أكن أتعرف على الناس بوضوح ولن أتعلم التحية إلا في سن التاسعة، حين حصلت على نظارات طبية.

كنا نقضي الصيف هكذا طلوعا وهبوطا، تبعا لنظام تكييف طبيعي يخضع له أبناء الواحة بدون تذمر.

شخص واحد لم تكن تخطئه عيني وكان دليل الرؤية قلبي، هذا الشخص هو عمي الأكبر.

هذا الرجل إسمه التهامي، وهو إسم غريب عن القبائل الأمازيغية الذين يسمون عادة “عسو” و”باسو” و”حدو”. عمي يحمل إسما غريبا ووجها غريبا أيضا. كان أبيض البشرة، صافي الطلعة وطويل القامة. لم أكن أمل من النظر إلى وجهه العريض الذي تعلوه عينان مبللتان بالدموع لسبب لا أعرفه. ذات يوم، سألته في الدرج الأخير من بيت جدتي بتامردولت:

– لماذا تبكي يا عمي؟

أجابني:

– لأنني أخاف من نفسي، فهي طماعة.

اقرأ أيضا: #ألف_حكاية_وحكاية: مختطفة تنجداد (الجزء الثاني والأخير)

لم أكن أفهم لماذا يخاف هذا الرجل من نفسه. كنت دائما أراه هادئا مقرفصا أو عائدا من تاشقالت وأدوات الفلاحة على كتفيه. ينزلها بهدوء ويخرج من كيسه بعض الخضراوات أو حبات تمر ويضعها في أحد ثقوب المطبخ،  وهي ثقوب تدخل الهواء والشمس إلى هاته الحجرة ونستعمل أطرافها لترتيب الأشياء. يتوضأ ويصلي وبعدها، ينسحب إلى الدرج الأخير من بيت ليس له.

يخرج كتابا مهترئا وينشد:

– أمن تذكر جيران بذي سلم…

هكذا طيلة الزوال، إلى أن يتلطف الجو ويتسنى له الخروج إلى حقله للسقي.

من حين لآخر، كان يحضر إلى بيت عمي التهامي أصدقاؤه الدراويش. بالأمازيغية، نسميهم أرتبيين. كان مجيئهم دائما مباغتا وغالبا مايصادف يوم السوق، الأحد.

كنت أريد أن أرى البركة التي يحملون. أفضل بركة جدي المخماخ حين يمر أمام البيت. يخرج البرتقال اللذيذ من قب جلبابه ويقول لأمي: “أعطي هاته البركة للأطفال”. هاته بركة حقيقية. فأين برتقال درقاوة؟ أين بركتهم التي يزعمون؟

ما إن تأتي عمتي لإخبارنا، حتى نتسارع جميعنا. نلتف حول أمنا ونلح على الذهاب إلى بيت الجدة. الحق أن أمي كانت مطلوبة للخدمة، للمساعدة في تهيئ الطعام للإخوة الدراويش. كانوا فريقا من عشرة شخصا أو أكثر، ويلبسون ايقودار، وهي جلابيب بيضاء، وبعضهم يضع العمامات الخضر ويسمونهم الدرقاوة. سألت أمي ذات يوم لماذا هي سعيدة بمجيئهم، فقالت:

– الدرقاوة يحملون البركة الكبيرة.

اقرأ أيضا: #ألف_حكاية_وحكاية: إفطار رمضاني

تسللت إلى تاسقيفت ونظرت جاهدة بكل قصر نظري إلى أمتعتهم. لم يكن معهم سوى اقرابن، محافظهم الجلدية الصغيرة، ولا مراكيب لهم. لم أفهم أين يحملون البركة الكبيرة. هل يضعونها تحت العمامة؟ إذا كانت هناك، فذلك يعني أنها صغيرة جدا.

كنت أراهم ينشدون ويغيبون، وفي نهاية الحضرة، لا يسمع منهم إلا:

ـ الله حي، الله حي…

سألت جدتي:

– لماذا لم يخرجوا البركة يا جدتي؟ لم أرها رغم أني راقبتهم طيلة الليلة…

آكل الثمر المعجون اللعين وأستغفر ربي وأنتظر بفارغ الصبر أن يأتي جدي ببركته، فهي بركة أستطيع أن آكلها وأتلذذ بها. أما عن الدراويش، فإن بركتهم لا تتعدى لغتهم الغريبة التي تأسرني وتقودني إلى قدر الوله بلغة ليست لغتي

– تراقبين الدراويش يا سليطة اللسان؟

– كنت أريد أن أرى البركة التي يحملون. أفضل بركة جدي المخماخ حين يمر أمام البيت. يخرج البرتقال اللذيذ من قب جلبابه ويقول لأمي: “أعطي هاته البركة للأطفال”. هاته بركة حقيقية. فأين برتقال درقاوة؟ أين بركتهم التي يزعمون؟

– جدك مرابي ولا يصلي. لا تقارنيه بالدرقاوة الذين يأتون إلى بيتنا بالخير.

– جدتي، لقد أكلوا كل اللحم والمربّى والكاوكاو (الفول السوداني). حتى تمر المجهول أتوا عليه، وأنا أريد أن آكل.

تنهرني جدتي وتصيح:

– إذهبي إلى “آشقوف” (وهي آنية كبيرة يحتفظ فيها بالثمر المعجون) وخذي ثمرا معجونا واستغفري ربك مما قلته في حق الدراويش.

آكل الثمر المعجون اللعين وأستغفر ربي وأنتظر بفارغ الصبر أن يأتي جدي ببركته، فهي بركة أستطيع أن آكلها وأتلذذ بها.

أما عن الدراويش، فإن بركتهم لا تتعدى لغتهم الغريبة التي تأسرني وتقودني إلى قدر الوله بلغة ليست لغتي.

اقرأ أيضا: #ألف_حكاية_وحكاية: الشيخ “لـ” والحريم: دعارة حلال؟

تعليقات

  1. Mama Darkaoui

    تبارك الله على بنت الدراويش حقا استمتعت بما كتبت وطبيعي جدا فنحن نتقاسمه جمعت هذه المرة نين معانات الكتابة وعذوبة الفكاهة تحياتي العطرة وفقك الله

اترك رداً على Mama Darkaoui إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *