عبد الإله أبعصيص: أورام الهوية أعطاب للمواطنة - Marayana - مرايانا
×
×

عبد الإله أبعصيص: أورام الهوية أعطاب للمواطنة

الهوية والمواطنة، مرتبطان بموازين القوى… حيث مالت تميل. إذا كان صاحب السلطة، أو من يحوزها ولو لوقت محدد، ذو نزعة هوياتية، ارتفع منسوب الخطاب والممارسة الهوياتية وتضخم، ونفس الأمر عندما يكون صاحب السلطة أو حائزها ذو نزوعات مواطناتية وإن بعسر شديد.

عبد الإله أبعيصيص

“يولد الإنسان حرا ويوجد مقيدا في كل مكان… هو يظن نفسه سيد الآخرين، بينما يظل عبدا أكثر منهم…” (روسو).

في كل مقدمات ومحاضرات القانون العام. الدستوري منه والإداري وغيرهما من التخصصات، تحضر موضوعة الدولة بمفهوميها القانوني والسوسيولوجي. تتزاحم تعاريفها ومفاهيمها، فهي تارة سلطة مركزية وتارة أخرى سلطات عامة، وقد تعني المجتمع السياسي المنظم والمستند إلى ركيزة اجتماعية هي الأمة.

تتعدد التعاريف والمفاهيم والمداخل للفهم والتفسير والتأويل وماعدا ذلك من مجالات البحث والاشتغال لفهم هذه الظاهرة وتقريبها لأذهان الطلبة.

وبمجرد ما يغادر الطالب رحاب الحرم الجامعي، أو بمجرد مغادرته مدرج المحاضرة والدرس، حتى يصطدم بمفاهيم أخرى، لا يتم الالتفات إليها في المحاضرات مدرسيا إلا لماما، (وهذا موضوع آخر سيحين موعده لاحقا، أقصد علاقة الدرس الجامعي، خصوصا القانوني منه، وبشكل أخص الدستوري، بالواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي).

كل الحريات الفردية، التي من أجلها انتفضت الإنسانية، برغم كل الضمانات التي يوفرها القانون وكل التطمينات التي يقدمها الخطاب الهوياتي، تصبح بدورها تهديدا للمجتمع، أو تتم محاربتها على هذا الأساس، وبالتالي فأي حديث عن المواطنة يصبح تهديدا شاملا لجوهر الحق في الاختلاف

ففي سياق البحث عن وظائف أخرى وأدوار أكثر أهمية للدرس الحقوقي أو القانوني يجوز لنا (طبعا تقديرا منا فقط لأهمية العلاقة بين النص كما تتم صياغته والممارسة كما تتم شرعنتها قانونا أو أمرا واقعا)، ــ يجوز لنا ــ طرح العلاقة بين مفهومين متناقضين ومتكاملين في نفس الآن. متناقضين من حيث المنشأ، متكاملين من حيث مخرجات كل نقاش مرتبط بهما، إذا ما كان طرفا أو أطراف النقاش على وعي تام بضرورة التوصل إلى مخرجات تكاملية وليست صدامية، بمعنى أنهما يكملان بعضهما إذا ما قرر كل حامل لمرجعية ما، مد اليد للآخر للتحية والسلام، بدل مدها للعب رياضة “اليد الحديدية” (Bras de fer)… أقصد مفهومي الهوية والمواطنة.

إقرأ أيضا: من تونس، جيهان الزمزمي تكتب: تونس بعد الثورة، الخطاب السياسي والهوية

فعندما يتولد الاعتقاد الجماعي بالتميز عن الآخرين، تميزا حقيقيا كان أو وهم تميز بين مجموعة أفراد تربط بينهم روابط متعددة ومتنوعة روحية، قبلية، جغرافية … إلخ، نكون أمام مفهوم الأمة حسب “أندري هوريو”، فهذا المفهوم يتشكل تبعا لمحددات عدة، لعل الهوية هي الوعاء الشامل لبعضها أو كلها. لكن التناقض إن لم نقل المفارقة، هو عندما يحصل تضخم هذا الإحساس بالتميز، تتضخم معه أمراض يمكن تسميتها أورام الهوية، وعندها نكون حتما أمام أعطاب تعيق تبلور مفهوم المواطنة. هذا المفهوم الناشئ والمرتبط بثقافة أنوارية حقوقية وضعية.

فالدولة بماهي مجموعة بشرية تعيش أو تقيم على رقعة جغرافية تحت سلطة سياسية (المفهوم القانوني للدولة)، في حاجة حاسمة لمفهوم المواطنة حتى يكتمل فعلا بناء الدولة، فالمواطنة هي التعاقد أو العهد الأرقى الذي أنتجته الثورة الكبرى التي غيرت مسار الإنسانية على مستوى الحقوق والحريات والوجود المستقل للفرد. إنها نقيض العبودية كما عرفها “روسو” في “عقده الاجتماعي”، حيث يقول: “بما أنه ليس للإنسان سلطان طبيعي على مثله. وبما أن القوة لا توجب أي حق، فإن العهود تظل أساسا لكل سلطان”.

المواطنة اختيار فردي وجماعي واع، نقيض العبودية التي هي واقع مفروض بحكم التاريخ أحيانا أو الجغرافيا أو القبيلة أو الدين أو الواقع، إنها أشبه وأقرب لمشمولات الهوية… (نصبح هنا أمام خطاطة جديدة المواطنة والحرية في مواجهة الهوية والعبودية).

 لماذا؟

 المواطنة مفهوم مرتبط بثورة الإنسان على ظلم عمر طويلا باسم محددات هوياتية. الهوية استمرار تاريخي مرتبط بإحساس أو اعتقاد جماعي بالتميز، المواطنة ترتبط بالقانون البشري الوضعي المتعاقد بشأنه أما الهوية، فهلامية غير قابلة للضبط والتأطير والقياس من حيث احترام الفرد لضوابطها. لكنهما معا، مرتبطان بموازين القوى حيث مالت تميل. إذا كان صاحب السلطة، أو من يحوزها ولو لوقت محدد، ذو نزعة هوياتية، ارتفع منسوب الخطاب والممارسة الهوياتية وتضخم، ونفس الأمر عندما يكون صاحب السلطة أو حائزها ذو نزوعات مواطناتية وإن بعسر شديد.

المواطنة اختيار فردي وجماعي واع، نقيض العبودية التي هي واقع مفروض بحكم التاريخ أحيانا أو الجغرافيا أو القبيلة أو الدين أو الواقع، إنها أشبه وأقرب لمشمولات الهوية…

 تبعا لما سبق وباستحضار تقابلات “كوثراني وجيه” الوجيهة، فحيث تكون الهوية محددة بعقيدة دينية أو بانتماء لوطن أو لمرجعية أخلاقية ما أو ربما بالانتماء لجماعة ثقافية ما، يكون المقابل لكل ذلك، وبالاطراد ذاته، تهديدات للحرية الدينية مع ما يستتبعها من تهديد للذات الجماعية، ويصبح الحديث، أي حديث عن الحقوق الثقافية للأقليات، بمثابة تهديد معلن أو مضمر حسب السياق، للوحدة السياسية المبنية على الوهم السابق المتعلق بالهوية.

إقرأ لنفس الكاتب: يحكمنا المزاج ويتحكم فينا المجاز…

 كل الحريات الفردية، التي من أجلها انتفضت الإنسانية، برغم كل الضمانات التي يوفرها القانون وكل التطمينات التي يقدمها الخطاب الهوياتي، تصبح بدورها تهديدا للمجتمع، أو تتم محاربتها على هذا الأساس، وبالتالي فأي حديث عن المواطنة يصبح تهديدا شاملا لجوهر الحق في الاختلاف. فالانتماء إلى الجماعة المتشبعة بوهم التميز م المحدد لمفهوم الأمة كما صاغه “هوريو” يعدم كل حقوق الفرد للتميز. قمة التناقض حقا.

كيف والحالة هذه يمكن تجاوز هذه الأورام للوصول إلى مواطنة سليمة من الأعطاب؟.

من السذاجة، وقد يكون من التفاؤل الغبي، استسهال الحل رغم أنه ممكن وممكن جدا. فالحوار هو المدخل الوحيد الأوحد. مد اليد واستحضار مستقبل الأجيال فيما يمكن تسميته  بالمواطنة المستدامة ومراعاة الشقوق التي يمكن أن تخلفها كل محاولة لمحو الهوية والتربية ولو بصرامة قاسية على ثقافة مواطناتية، تفتح أقواس الحياة المشتركة على مصراعيها.

لا أحد يملك كل الحقيقة. لا أحد له الحق أن يفرض وهم الحقيقة.

وحتما كل تضخم للهوية هو ورم سيعطل كل إمكانية بناء المواطنة المستدامة.

 

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *